أحمد بن محمد بن حنبل أبي عبد الله الذهلي الوائلي الشيباني، من أهل العراق،[4] وُلد سنة 164 هـ في بغداد ونشأ فيها يتيمًا، وقد كانت بغداد في ذلك العصر حاضرة العالم الإسلامي، تزخر بأنواع المعارف والفنون المختلفة، وكانت أسرة أحمد بن حنبل توجهه إلى طلب العلم، وفي سنة 179 هـ بدأ ابن حنبل يتَّجه إلى الحديث النبوي، فبدأ يطلبه في بغداد عند شيخه هُشَيم بن بشير الواسطي حتى توفي سنة 183 هـ، فظل في بغداد يطلب الحديث حتى سنة 186 هـ، ثم بدأ برحلاته في طلب الحديث، فطلب الحديث في مدن العراق، ورحل إلى والحجازوتهامةواليمن، وأخذ عن كثير من العلماء والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عاماً في سنة 204 هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف، عُرف أحمد منسوباً إلى اسم جدّه حنبل أكثر من اسم والده محمد، وذلك لأن حنبلاً كان والياً للأمويين في خراسان، ومن الدعاة إلى قيام دولة العباسيين، فكانت شهرة حنبل أقوى.[5] اشتُهر ابن حنبل بصبره على المحنة التي وقعت به والتي عُرفت باسم «فتنة خلق القرآن»، وهي فتنة وقعت في العصر العباسي، وفي شهر ربيع الأول سنة 241هـ، مرض أحمد بن حنبل ثم مات، وكان عمره سبعًا وسبعين سنة. ولم يؤلف الإمام أحمد كتابًا في الفقه إنما أخذ أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته لكنه صنف في الحديث كتابه الكبير المسند.
وقد ذكر ابن القيم أن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فتاواه، خمسة وهي:
أولاً: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولذلك قدم النص على فتاوى الصحابة.[6]
ثانياً: ما أفتى به الصحابة[7] ولا يُعلم مخالف فيه، فإذا وجد لبعضهم فتوى ولم يعرف مخالفاً لها لم يتركها إلى غيرها، ولم يقل إن في ذلك إجماعاً بل يقول من ورعه في التعبير: «لا أعلم شيئاً يدفعه».
ثالثاً: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتابوالسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول، قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: قيل لأبي عبد الله: «يكون الرجل في قومه فيُسأل عن الشيء فيه اختلاف»، قال: «يفتي بما وافق الكتاب والسنة، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه».
رابعاً: الأخذ بالحديث المرسلوالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه.[8] قال ابن قدامة: مراسيل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الجمهور[9]
خامساً:القياس، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة أو واحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيفاً، ذهب إلى القياس، فاستعمله للضرورة كما قال ابن القيم، وقد رُوي عن الإمام أحمد أنه قال: «سألت الشافعي عن القياس فقال: إنما يُصار إليه عند الضرورة».[10][11] وقول أحمد بالقياس واعتباره حجة في الأحكام الشرعية يتمشى مع منهجه السلفي، واتباع الصحابة رضوان الله عليهم على وجه الخصوص، فقد استعملوا القياس.[12]
معالم المذهب الحنبلي - ما لا يسع الحنبلي جهله - للدكتور ذياب الغامدي.
أماكن الانتشار
تكون المذهب الحنبلي في بغداد؛ محل مولد إمام المذهب أحمد ووفاته، ومنها انتشر في أنحاء العراق، وخاصة في الزبير، ولم ينتشر خارج العراق إلا في القرن الرابع فما بعد؛ حيث خرج المذهب إلى الشام، وهو القاعدة الثانية للمذهب، وفي القرن السادس فما بعده دخل المذهب إلى مصر، وكان له وجود وانتشار في: إقليم الديلم، والرحاب، وبالسوس من إقليم خوزستان، وفي بلاد الأفغان، وفي جزيرة العرب: في نجد -وهي القاعدة الثالثة للمذهب-، وفي الحجاز، والأحساء، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية، وعمان، والكويت.[13]
المذهب في بغداد
وهي: قاعدة المذهب الأولى؛ ففيها كانت نشأة المذهب الحنبلي وظهوره، وقوي أمره بها في القرن الرابع الهجري، وصار ينافس بقية المذاهب السنية، وصار للحنابلة حضور علمي كبير.
وأخذ المذهب في القوة والانتشار على يد تلاميذ أحمد بن حنبل، الذين دونوا مذهبه في كتب المسائل عنه، ثم جمع الخلال (ت: 311 هـ) ما أمكنه منها في كتاب: «المسند الجامع للمسائل عن الإمام أحمد»، ثم تتابع الناس على التأليف حتى بلغ الحسن بن حامد (ت: 403 هـ) في زمانه مبلغا عظيما؛ تأليفا، وقراءة، وإقراء، وصار من ثماره تلميذه: أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنفي ثم الحنبلي، المولود سنة 380 هـ، والمتوفى سنة 458 هـ؛ الذي كثر عنه الآخذون، وانتشر المذهب في عصره وازدهر؛ حتى كان بحق شيخ الحنابلة ومحقق المذهب.[14]
وله ذرية وعقب اشتهروا باسم: "بيت ابن الحنبلي"؛ أخذ عن القاضي أبي يعلى في بغداد، ثم رحل إلى بيت المقدس؛ فنشر المذهب في القدس وما حوله، ثم انتقل إلى دمشق؛ فانتشر فيها المذهب، وتخرج به الأصحاب، وكان من بركته: آل قدامة.[15]
وبقي المذهب منتشرا في بلاد الشام إلى زمن مجيء الدولة العثمانية التي يتمذهب سلاطينها وقضاتها وغيرهم بالمذهب الحنفي، مع ميلهم إلى تقليد رعاياهم إياه؛ فلم يزل الحنابلة بعدها ببلاد الشام في اضمحلال.[16]
المذهب في مصر
كان للمذهب وجود قليل فيها، ومن ذلك الوجود القليل: أبو عمرو عثمان بن مرزوق القرشي، الفقيه الحنبلي، وكان قد صحب عبد الوهاب الجيلي بدمشق وتفقه، واستوطن مصر، وأقام بها حتى مات سنة (564 هـ). وهو أول حنبلي مصري يترجم في الحنابلة.
ويبدو أن المذهب أخذ يضعف بعد موت فقهائه المشاهير هناك؛ حتى أصبح في مستهل القرن الرابع عشر لا يمثله إلا قلة قليلة، ويمثله في الجامع الأزهر عدد يسير من الشيوخ والطلاب.[18]
الحجاز؛ وفيه الحرمان الشريفان: وهو مظنة وجود المذهب الحنبلي، ومن نظر في كتب التراجم المفردة لمكة والمدينة رأى فيها تسمية من شاء الله من الحنابلة.
إقليم نجد: والذي يتأكد أن المذهب الفقهي الحنبلي كان سائدا فيه منذ القرن الحادي عشر الهجري، ولم يزل في تقدم واضح حتى ظهرت الدولة السعودية الأولى، والتي تبنت المذهب الحنبلي؛ فنما المذهب في قلب نجد نموا مطردا، لاسيما وأن الحركة التجارية بين نجد، والشام، والعراق، والأحساء كانت مطردة؛ فاستقر المذهب الحنبلي بقاعدته العريضة في نجد.
ذكر بعض الباحثين عدة أسباب لعدم انتشار المذهب الحنبلي، فقال سالم الثقفي:[22]
وأما أسباب قلة أتباعه فمنها :
أولاً: أنه جاء بعد أن احتلت المذاهب الثلاثة التي سبقته في الأمصار الإسلامية قلوب أكثر العامة ، فكان في أكثر نواحي العراق مذهب أبي حنيفة ، وفي مصر المذهب الشافعي والمالكي ، في المغرب العربيوالأندلسالمذهب المالكي بعد مذهب الأوزاعي ، ولكن رغم تمكن هذه الظاهرة النفسية من نفوس الجماهير من المسلمين في بعض الأمصار إلا أنه في أكبر مدن الإسلام يومئذ - بغداد - قد رأينا أن مذهب الإمام أحمد جذبهم بما استمالهم به من قوة الإقناع وجلاء الوضوح في مرئياته .
ثانياً: أنه لم يكن منه قضاة ، والقضاة إنما ينشرون المذهب الذي يتبعونه ، فأبو يوسف ومِن بعده محمد بن الحسن رحمهما الله نشرا المذهب العراقي وخصوصاً آراء أبي حنيفة وتلاميذه ، وسحنون نشر المذهب المالكي وعمل على نشره أيضا الحكم الأموي في الأندلس ، ولم ينل المذهب الحنبلي تلك الحظوة إلا في بغداد أيام نشأته ، وإلا في الجزيرة العربية أخيراً ، وفي الشام وقتاً من الزمن .
ثالثاً: شدة الحنابلة على أهل البدع والضلالات ، وتمسكهم بالأمر عن الوقوع في المأثم ، واتباعاً منهم لأصلهم الذي تمسكوا به أكثر من سواهم وهو سد الذرائع ، وفي هذا الصدد حكى ابن الأثير قصة ما حصل منهم في سنة 323 هـ حينما قويت شوكتهم ، فصاروا يكبسون على دور القُوَّاد والعامَّة فإن وجدوا نبيذاً أراقوه ، وإن وجدوا مغنيَّة ضربوها وكسروا آلة اللهو حتى أثاروا بغداد .
رابعاً: أن الأكابر من أتباعه حين يبلغون درجة الإمامة يستبد بهم الورع عن إغراء الناس بمغريات الدنيا التي تجتذبهم إلى تمجيد المذهب في عيون العامة والسواد العام اكتفاء بعنصر الإقناع المتجسد في منهج المذهب الحنبلي.
خامساً: ضغوط الدولة العثمانية على أتباع المذهب الحنبلي حتى تلاشوا من موطنه الأم أولاً : بغداد ونواحيها ، ثم الشام وغيرهما من البلاد الأخرى ، وهذا سبب سياسي قوي الأثر إذا ما أخذ في الاعتبار اغتنام شدة تمسك الحنابلة في التشهير من قبل خصومهم بمذهبهم الذي كان بمثابة المرتع الخصيب للمناوئين له أو قل : للذين يهدفون لإحلال مذاهبهم محله .
فأما أحمد بن حنبل فمقلِّده قليل لبُعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض ، وأكثرهم بالشاموالعراق من بغداد ونواحيها ، وهم أكثر النَّاس حفظاً للسنَّة ورواية الحديث
عن عبد الله بن أحمد قال:«قيل لأبي :ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه ، وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم ، لا يخلو شيء من علمه».[26]
أورد عبد الله بن أحمد -و هو ابن الإمام أحمد بن حنبل- في كتابه السنة العديد من النصوص التي تدل على مذهب السلف و أنه مخالف للتأويل و التفويض البدعي. من النصوص التي أوردها نقل بآخره «و هل يكون الاستواء إلا بجلوس».[27] رغم أن بعض أهل السنة المعاصرين لا يرضون إطلاق لفظ الجلوس و استعماله إلا أن يرد بكتاب أو سنة .( استواءا يليق به سبحانه و بحمده .. ليس كمثله شئ و هو السميع البصير )[بحاجة لمصدر]
قال حنبل:[28] «سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي ﷺ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله قوله ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، حتى قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا قال قلت نزوله بعلمه أم بماذا ؟ ، فقال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا امض الحديث على ما روي»
قال أبو بكر الخلال: وقد حدثنا أبو بكر المروذي قال: «سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش ، فصححها أبو عبدالله ، وقال : قد تلقتها العلماء بالقبول ، نسلم الأخبار كما جاءت . قال : فقلت له إن رجلا اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت ، فقال : يجفى . وقال ما اعتراضه في هذا الموضع ؟! يسلم الأخبار كما جاءت»[29]
﴿ليس كمثله شيء﴾ في ذاته كما وصف نفسه، قد أجمل الله الصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة «ليس يشبهه شيء» ، وصفاته غير محدودة ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ونؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد، إلا بما وصف به نفسه، سميع بصير، لم يزل متكلما، عليم غفور، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ، ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ، فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد؛ كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ، وهو: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، وهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا نتعدي القرآن والحديث، تعالى الله عما تقول الجهميةوالمشبهة.
يختلف الأشاعرة والحنابلة في مسائل في العقيدة منها: الاستواء ورؤية الله في الآخرة وتفسير الصفات،[34] وحدثت عدة فتن بينهم، من أشهرها ما سماها السبكي بفتنة الحنابلة،[35] وسماها الحنابلة كابن رجب الحنبليوابن الجوزيبفتنة ابن القشيري،[36] وذكر ابن رجب مضمون ذلك فقال:«أن أبا نصر القشيري ورد بغداد سنة 469 هـ ، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة، فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده، والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد الخصومة إن وقعت، فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر، فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأخذت ثياب، وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام وصاحوا: المستنصر بالله يا منصور - يعنون العبيدي الفاطمي صاحب مصر - وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي وأنه ممالئ للحنابلة، ولاسيما والشريف أبو جعفر ابن عمه[37][38]»، بينما ذكر تاج الدين السبكي[39]أن بعض الحنابلة من الأشاعرة[بحاجة لمصدر].
مراجع
^مُعرِّف كُتب جُوجل (Google Books): jLFHch63Zq8C. الصفحة: 137. العنوان: The Formation of the Sunni Schools of Law: 9th-10th Centuries C.E.. المُؤَلِّف: Christopher Melchert.